مئات الأفارقة جاءوا من أنحاءالسودان، ومن تشاد وليبيا، وأفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، وإريتريا، ونيجيرياوالنيجر -وآخرون من خارج القارة- إلى جبل عامر بحثاً عن المعدن الاصفر بداخله . ذهب معظم التقارير والتحليلاتعن الوضع الداخلي في السودان إلى بحث العوامل السياسية والعسكرية من خلال مظاهرالصراع الدائر بين الجيش السوداني بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادةحميدتي، ولكن هذا المقال يركز حصراً على دور الذهب السوداني في الصراع الدائر،اعتماداً على البيانات الرسمية السودانية. تحتوي تربة السودان الكثير منالمعادن، فضلاً عن الذهب. وقد شكلت هذه المعادن نقمة ونعمة في آن. من جهة، تفترضاحتياطات المعادن إمكانية تنظيم الدول لعملية استخراجها، ما يعني إدرار الكثير منالعوائد، ولا سيما النقد الأجنبي. من جهة ثانية،صار السودان،نظراً إلى تربته الغنية، مسرحاً للصراعات العالمية طوال تاريخنا الحديث. واليوم، يشتدالصراع في العالم على مصادر الطاقة ومناجم المعادن، والسودان ضمن أكبر منتجيالمعدن الثمين،ما يفترض في الوقت نفسه مكانة تنافسية مرموقة. في الواقع، أدى التقسيم الدوليللعمل إلى أن يتخصص السودان في إنتاج المحاصيل الزراعية والمعادن. هذه المكانةتفترض أولاً علاقة خاصة للغاية بالاقتصاد العالمي، وبالتالي، ثانياً، عملية نزحللقيمة من السودان الطرفية إلى أشباه الأطراف الرأسمالية والمراكز الرأسمالية،وتفترض بالمثل أيضاً، ثالثاً، أنّ السودان يعاني تخلفاً اجتماعياً اقتصادياً،ولديه بنية اجتماعية مشوّهة يعتليها ذوو النفوذ من العسكريين ورجال الأعمالوالعصابات الذين يعملون –جميعهم- ليس على نزح القيمة فحسب، إنما أيضاً إعادةإنتاج الظروف الآنية نفسها التي أنتجتها. تقول بيانات الأمم المتحدةإنَّ نسبة التضخم في السودان بلغت 382.8% عام 2021 في مقابل 10.5% في جنوب السودان، و2.6%في ليبيا، و5.2% في مصر، و5.7% في تونس. وبينما أضافتتقارير الأمم المتحدة إلى أن 46.5% من سكان السودان يعيشون تحت خط الفقر، فإن بعضالمنظمات ووسائل الإعلام يشكّك في صحة هذه الإحصاءات. وقد أعلنت بعض المنظمات عام 2020 أنَّ 80% من السودانيينيعيشون تحت خط الفقر، مضيفًا إلى أن دخل الفرد لم يتجاوز 1.25$في اليوم. وقدّر خبراءآخرون أن المعدل الفعلي يتجاوز حاجز 80%. في الواقع، كل الأرقام المعلنةلمعدلات الفقر في السودان تستند إلى مؤشر الفقر المحلي (1.9دولار للفرد في اليوم)، لكن إذا تمحسابه وفقاً لمؤشر الفقر العالمي (3.5 دولارات للفرد في اليوم)، فإن أكثر من 90% من الشعبالسوداني سيقع تحت خط الفقر. وفقاً لإحصاءات هيئة المسحالجيولوجي الأميركية، احتلّ السودان المركز الـ12 في الترتيب العالمي لإنتاج الذهب بواقع 50 طناً في عام 2022. وتشيرإحصاءات أخرى عديدة إلى أن احتياطي الذهب يبلغ 1550 طناً وأكثر. ويلفت العديد من التقارير إلىأن أكثر من 2 مليون شخص يعملون في التنقيب عن الذهب داخل السودان، وأن التعدين غير الرسمييبلغ نحو 80% من إجمالي الذهب المستخرج. وبينما كان إجمالي صادراتالمعدن النفيس من السودان 51.1 طناً بنحو 2.063 مليار $ عام 2021، بمتوسط 40,307 $ للكيلو، كان المتوسط العالمي نحو 63,514 $، أي أنكيلو الذهب تم بيعه أقل بفارق 23,207 $من متوسط السعر العالمي في العام نفسه.[1] بحسب البيانات، على الرغم منأن حجم واردات الإمارات من الذهب السوداني لا يشكل نسبة كبيرة من إجمالي وارداتهامن الذهب، فإنّ هذه النسبة تشكل أكثر من 95% من إجمالي صادرات الذهب السوداني -الذي تستحوذ عليهالإمارات- على مدى عقد ونيف. فضلاً عن ذلك، يمكننا أن نلاحظوجود تباين بين بيانات المصادر السودانية الرسمية عن صادرات الذهب إلى الإمارات،وبيانات المصادر الإماراتية الرسمية عن واردات الذهب من السودان، فقد ارتفعت قيمةواردات الإمارات من ذهب السودان (وفقاً للمصدر الإماراتي) عن صادراته إليها (وفقاً للمصدر السوداني) في الفترةالممتدة بين 2015 و2021 –ما عدا عام 2019، حين انخفضت قيمة واردات الإمارات من ذهب السودانعن صادراته إليها بفارق 8.046 مليون دولار– وعلى سبيل المثال، ارتفعت قيمة وارداتالإمارات من ذهب السودان عام 2017 عن صادراته إليها بفارق 897.169مليون دولار، وهي أعلى نسبةفارق بين البيانات الرسمية للدولتين. يمكن أن نرجِع سبب التباين فيالبيانات إلى أن الإمارات تتعامل مع موردين سودانيين لا تحسب الدولة الكميات التييصدرونها، لكن السبب الرئيسي في الفارق يرجع إلى عمليات التهريب، الأمر الذي يعنيبالضرورة أن الفوارق في البيانات ليست وحدها التي تهرب من السودان إلى الإمارات أوغيرها من الدول. مئات الأفارقة جاءوا من أنحاءالسودان، ومن تشاد وليبيا، وأفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، وإريتريا، ونيجيرياوالنيجر -وآخرون من خارج القارة- إلى جبل عامر بحثاً عن ذهبه؛ هذا المعدن النفيس الذيتقدر احتياطاته بمليارات الدولارات، والذي يهرب بمختلف الطرق إلى الخارج، تاركاًوراءه مئات القتلى بين حروب العصابات، والعمل الشاق البخس الثمن، وآلاف المشردينبلا مأوى. ووفقاً لتقارير الأمين العامللأمم المتحدة إلى مجلس الأمن عام 2012، بلغ عدد القتلى بفعل مناجم الذهب أكثر منضعف عدد القتلى في الصراع بين الجيش والمتمردين والقبائل المتصارعة في دارفور. يقع جبل عامر في منطقة السريفبني حسين جنوب غرب دارفور على بعد حوالي 971 كيلومترغرب الخرطوم، وفيه مساحة للتعدينتبلغ حوالي 20 كيلومتراً مربعاً وأكثر من 10,000 منطقة للتنقيب، وهو محطة رئيسية في الصراععلى موارد السودان. تسكن هذه المنطقة قبيلتانعربيتيان هما الرزيقات وبني حسين. دخلت هاتان القبيلتان في حرب دامية عند اكتشافالمعادن النفيسة في جبل عامر عام 2012. ومع زحف الكثيرين من غير السودانيين نحوالمنطقة، التحمت القبيلتان معاً بوساطة من الجيش لمحاولة صد الغرباء وهجماتهم علىسكان المنطقة. في الواقع، كان النشاط السائدللتعدين في تلك المنطقة ضيق النطاق (أفراد أو مجموعات صغيرة من الحرفيين). وبحسب العديد منالإحصاءات، إذا ما أضفنا إنتاج التعدين ضيق النطاق والحرفي إلى الإنتاج الرسمي،فإن السودان كان عام 2016 أكبر منتج للذهب في القارة بعد جنوب أفريقيا وغانا،وثاني أكبر مصدر إلى الإمارات العربية المتحدة بأسعار أقل بكثير من متوسط سعرالذهب السنوي، وأيضاً أقل بكثير من الحد الأدنى لسعر الذهب. ومع تفاقم الصراع، سيطرت قواتالدعم السريع (الجنجويد سابقاً) -هي مزيج من الميليشيات العرقية والمشاريع التجاريةالمعولمة والمرتزقة من مختلف البلدان- بقيادة حميدتي على كامل المنطقة، وراحت تعملعلى استخراج الذهب بكثافة، الأمر الذي جعل التنقيب المرتبط بالعصابات المسلحة هوالشكل السائد للتنقيب في المنطقة. لمليشيا الدعم السريع ذراعاستثمارية هي شركة الجنيد. ومن خلال الذهب ونشاط المرتزقة المعتمد رسمياً،أصبحت شركة الجنيد تكتلاً واسعاً تتعدد مجالاته من التعدين والحديد والصلب إلىالاستثمار والنقل. ويشير الكثير من التقارير إلىأنّ شركة الجنيد كانت تبيع الذهب لشركة روسيلا الإماراتية، وأن المعاملات الماليةكانت تجري عبر مصرف أبو ظبي الأول. ويوضح تقرير مجلس الأمن الدولي [1] عن السودان أننحو 48 طناً من المعادن الثمينة دارفور هُرب إلى الإمارات خلال الفترة الممتدة بينعامي 2010-2014. أعلنت وزارة الطاقة والتعدينالسودانية في آذار/مارس السابق استئناف عمليات إنتاج الذهب من جبل عامر. جاء ذلك بعدانسحاب شركة الجنيد من مربع التنقيب عن الذهب فيه. في الواقع، كانت قوات الدعم السريع قد بدأتلتوها بترتيبات لتسليم مناطق تعدين الذهب في جبل عامر، لكن لم يتم الإعلان عن أيشيء رسمياً. حميدتي والبرهان كانا في يوممن الأيام حليفين قويين أقاما رابطة من خلال حرب انقلابين.ومع ذلك، انقلبا على بعضهمابعضاً، ودخلا في معركة عصيبة للسيطرة على البلاد. كل منهما يعمل لمصلحة رأس المال الدولي علىطريقته الخاصة، فيما تزهق عشرات الأرواح، ويشرد آلاف الناس، ويهوي الملايين تحت خطالفقر، وذلك فقط من أجل السيطرة وتحقيق الأرباح. وفقاً للإحصاءات الرسميةالإماراتية، حلّ الذهب في قمة واردات الإمارات من السودان في الفترة الممتدة بينعامي 2006 و2021 – ما عدا عام 2008 حين أتى في المرتبة الثانية بعد نفايات وفضلاتالمعادن النفيسة – مثلاً، عام 2006، شكلت واردات الإمارات من الذهب السوداني 95.43% من إجماليوارداتها من السودان، و98.44% عام 2010، و95.90% عام 2017، و97.20% عام 2021 [[1]]. ويتم نقل البضائع المسجلة رسمياً في السودانإلى الإمارات بشكل رئيسي عن طريق ميناء بورتسودان (نحو 675 كيلومتراً شمال شرقي الخرطوم على الساحلالغربي للبحر الأحمر). إذاً، تستحوذ الإمارات علىأكبر نسبة من الذهب السوداني، بل إن الفارق بين بيانات السودان الرسمية وبياناتالإمارات الرسمية -الكميات التي يتم تهريبها إلى الإمارات- يتراوح بين 25% (عام 2018) و60% (عام 2021) أو 80% (وفقاًلتقديرات خبراء)، نسبة إلى حجم الصادرات السودانية الرسمية، بل تباع هذه الكميات -وكذلك معظمالكميات الرسمية- غالباً بأسعار أقل من متوسط السعر العالمي. ويلاحظ من مجمل تلك الأرقاموجود عمليات تهريب مكثفة إلى الدول المحيطة بالسودان، ولا سيما ليبيا وتشاد، ومنهاإلى دول أخرى بطبيعة الحال. في الواقع، إن الإحصاءات المتوفرة عن تهريب الذهبالسوداني لا يمكنها أن تحدد بدقة كمية الذهب المهرب في كل عام، وتنفي عدة عواملجوهرية إمكانية حصر كميات الذهب المهربة، مثل حرب الشوارع الدائرة في الخرطومالآن، والأزمة الاقتصادية الاجتماعية والسياسية الممتدة، والأزمات الاجتماعيةوالإنسانية، وسيادة شكل التنقيب المرتبط بالعصابات المسلحة.